21‏/12‏/2016

حياة جيدة .. حياة بسيطة




الحياة الجيّدة هي #الحياة البسيطة.
 هذه هي العبارة التي توصل إليها عمالقة الفلسفة والفكر بعد كم كبير من البحث والاستنتاج والاستدلال على مدار التاريخ بُمختلف عصوره.
فالتعقيد في الحياة تم رفضه من قبل عدد ضخم من المُفكرين والفلاسفة والعلماء . نعم ربما الكون مُعقد نعم ربما بنية الذرة الصعبة، نعم هذه الأمور مُعقّدة بذاتها لكن نظرتنا نحوها ككائنات بشريّة يجب أن تكون نظرة بسيطة جدّاً كنظرة ( نيوتن ) إلى تلك التفاحة التي سقطت على رأسه وقادته نحو قانون الجاذبيّة.
موقف بسيط، نظرة بسيطة، تفكير نيوتني، والنتيجة قانون غيّر العالم!
ويُمكن القول أيضاً، أنه على مدار التاريخ البشري الطويل لم تكن البساطة في الحياة خياراً كما يراه البعض بل كانت ضرورة مُلحّة وقصوى! ومن اللازم فعلها وقد وصل الأمر أحياناً إلى مرتبة الفضيلة الأخلاقيّة. لكن مع ظهور #الرأسماليّة الصناعيّة والمُجتمعات الاستهلاكيّة نشأ نظام عالمي شرس لا يضع أمامه هدفاً سوى النمو والتضخم الذي لا هوادة فيه.
وفي هذا الوقت تحديداً بدأت الحياة بالتعقّد والتشعّب، فأصبح الإنسان البسيط في ظل هذه الموجة الشرسة من العنف الاستهلاكي هو الذي يُطلق عليه بالإجماع لقب المجنون أو صاحب النمط التقليدي!
فالأمر نزل مُباشرةً من كونه قيمة أخلاقيّة لوصف بالجنون والتقليد القديم!
في الأزمنة السابقة لهذا الزمن والتي يصح تسميتها بأزمنة ما قبل #الحداثة ، كان التناقض بين ما يقوله الفلاسفة والمُفكرين وبين ما يطبقه الناس على أرض الواقع ضئيل جدّاً. فطبيعة الحياة في السابق كانت بسيطة نوعاً ما.
لكن منذ أن ظهرت #الثروة على الساحة ، والتي بدورها عززت مفاهيم الأمن لدى الأفراد، على الرغم من أنها لم تستطع الوقوف في وجه الفواجع الكبرى كالأمراض والحرب والمجاعات وأحياناً ظلم الطغاة! زاد التناقض بين ما يقوله المُفكرين وبين ما يُطبقه الناس على الواقع.
فالأدوات الزراعيّة الكهربائيّة والديمقراطيّات المزعومة، والحقوق المدنيّة والمضادات الحيويّة كلها أشياء حسّنت من ظروف الحياة الإنسانيّة وأطالتها وجعلتها أقل ألماً، لكنها بنفس الوقت عقّدتها وشوّهتها وربما ستقودها للانقراض أيضاً !
ولربما بدأ البشر يعودون لرشدهم في هذا الموضوع، ففي المُجتمعات المُزدهرة الآن يميل الكثير من الناس للعودة إلى #البساطة في الحياة ، إلى البراءة الطفوليّة التي افتقدها الجميع بعيداً عن ضجيج الكهربائيّات وصناديق الانتخاب والحروب وغيرها من وسائل التعقيد.
بالرغم من كل هذا يبقى هناك مَن يُعادي هذا التوجّه ولا يُعطيه حقه من الاحترام المطلوب، ولا سيما أن كل شيء حولك يدفعك نحو التعقيد ونحو العيش بتعاسة مع هذا التعقيد الذي لا يرحم أبداً !
الملايين منا يندفعون بشكل شرس نحو الإنفاق نحو الاستهلاك نحو الثراء، نحو ساعات العمل الطويلة ونحو الديون. يندفعون وينسون إلى أين ولماذا هم يندفعون أصلاً!
جواب هذا التساؤل كلمة واحدة هي #النفاق! 
نحن نُثني على كلام الحكماء والعظماء والمُفكرين إلا أننا نتجاهل أن هذه الأمور يجب أن نُطبقها في حياتنا اليوميّة وفي سلوكنا أيضاً. نحن نثني على الحياة البسيطة والبُسطاء إلا أننا لا نُريد التنفيذ، نُريد أن نركض وراء ما هو مُزيّن ومُزخرف، نركض وراء شراء المنازل وراء تكديس الأموال وراء السيارات الأغلى وراء السلع الفاخرة وراء مظاهر الحياة التي لن تشبع نفسك منها حتى تجد جسدك ضمن قبر صغير يحضنك تحت تُراب الأرض!
مشكلة التناقض ليست هنا فحسب بل في عدّة أمور أخرى. فنحن أيضاً نُدين التبذير والإسراف إلا أننا بنفس الوقت نذهب لنكون السلع في معالم الإسراف الأثريّة في الماضي! كالمدينة المُحرّمة في #بكين وقصر فيرساي وأماكن أخرى شديدة الجذب، والتي اتفق الأغلبيّة على تسميتها معالم تاريخيّة، إلا أنها في الوقت نفسه يصح أن تُسمى معالم تبذيريّة !
ولعلَ أبرز معلم لدينا هو معلم دولما بهجة العثماني، الذي كان السبب الرئيس في انهيار الاقتصاد العثماني ومن ثمّ سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة.
فالتناقض لا يقتصر فقط بين القول والفعل، بل يشمل تاريخنا وأفعالنا وأمور أخرى.
وبالمناسبة يجب أن نقول أنّ الحياة ببساطة تتعلّق بعاملين رئيسيّن هما (الاقتصاد – البيئة) فعندما يحدث الركود كما يحدث في بضع دول الشرق الأوسط ينتهي الحال بملايين الناس عائدين إلى حيواتهم البسيطة، وقد يكتشفوا أيضاً بعض القيم الأخلاقيّة في تلك الحياة.
أما في المُجتمعات الأخرى ولا سيما في #أمريكا ، فهناك اتجاه واحد للحياة لم يتغيّر منذ زمن، هذا الاتجاه يُعرف بالرأسماليّة الأمريكيّة، والتي سأشرحها لك باختصار شديد موجز ومقتضب!
الرأسماليّة الأمريكيّة هي التي جعلت هناك إنسانًا فقيرًا وإنسانًا غنيًا! هناك بيل غيتس يسكن قصره وهناك عجوز سكير يتسكع في أحد مجاري لوس أنجلوس! هناك قمة وهناك قاع ، هناك ناطحة سحاب وهناك ناطحة مياه جوفيّة !
وقد قال الفيلسوف الشهير ايبيقور عن البساطة، بأن الإنسان الذي تُلبى كل حاجياته الأساسية سيعيش حياة جيّدة. وهذا هو أيضاً ما توصّل إليه عالم النفس الشهير صاحب الهرم ( ماسلو ) .
فالحياة ببساطة مع توفّر أبسط الحاجيّات كفيلة بإبعاد الإنسان عن #الشر وعن كل اللاأخلاقيّات أيضاً.
لكن وعلى الرغم من كل هذا الكلام الفلسفي الجميل إلا أن لا ايبيقور ولا ماسلو ولا غيرهم يستطيعون أن يُدافعوا عن الحياة ببساطة بعد مرور قرنين على ظهور وحش التصنيع الشرس! وحش النمو السكاني! وحش الاقتصاد، وعدّة وحوش أخرى ورثتنا النفايات السامة وتلوث الهواء وخنق رئة الكوكب بقص الغابات الذي لا يرحم غصناً ولا طيراً !
ففلسفة البساطة تعبّر عن القيم الأخلاقيّة وتدعوا للحياة بطريقة أكثر عفوية وصدق، مُعاكسةً بذلك كل النظم الجديدة التي تدفعك للجانب الآخر، فالجامعات والمؤسسات وحتى أماكن العبادة أصبحت تدفعك نحو التعقيد ونحو التشعّب والتفرّع القاتل !
ربما لن يقتنع الكثير من الناس بهذا الكلام، وهذا طبيعي ولا سيما في ظل تجيّش إعلامي حكومي لجعل الإنسان مُجرد آلة تعمل لكي تأكل وتنام ومن ثمّ تتكاثر لتُنجب آلات يقومون بنفس وظيفتها!
إلا أن ذلك اليوم سيأتي حتماً، اليوم الذي يعود فيه الجميع نحو البساطة في العيش والعمل، البساطة التي التزمتها أجيال قبلنا على مرّ الزمن، البساطة التي افتقدناها جميعاً، البساطة التي مارسناها عندما كنا أطفالاً فأطلق عليها الجميع مُسمى (براءة الطفولة). افتقدناها كثيرًا، افتقدنا هذه البساطة التي أصبح من يلتزم بها في عصر الوحش الصناعي الاستهلاكي يُقال له مجنوناً!
قولوا ما شئتم وافعلوا ما تريدون إلا أن البساطة سبيل عريض جداً لسعادة الإنسان ورضاه، فطوبى للبسيط من الناس وطوبى لكل البُسطاء أينما وُجدوا.

مشاركة : عبد الرحمن عرفة .
بتصرف : أشرف البشيري .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

«كتاب الفنان»... تجليات بصرية من وحي تراث «عميد الأدب العربي»

  يفتح معرض «كتابُ الفنان» آفاقاً فنية تقتفي تراث ومشروع «عميد الأدب العربي» الراحل طه حسين، وذلك من خلال أعمال تتخذ من «الكتاب» قالباً فنيا...