14‏/01‏/2015

غالب هلسا.. الحياة والكتابة معاً


هل من الممكن معادلة الحياة بالورق؟ كان هذا السؤال الذي عبّر فيه غالب هلسا (1932 - 1989) ذات يوم عن احتجاجه على الروائي السوري الراحل هاني الراهب (1939 - 2000) الذي قال إنه امتنع عن التدخين ليعيش بضع سنوات أكثر، فيتمكن خلالها من كتابة المزيد من الروايات. لم تكن الكتابة بحد ذاتها هي موضع احتجاجه بلا شك، بل إن اعتراضه كان على استبدال الرغبة في أن يحيا الإنسان بحرية، بالرغبة في كتابة المزيد من الحكايات على حساب الحكاية الأساسية: العيش. الآن، وبعد مرور ربع قرن على وفاته المفاجئة ذات يوم دمشقي يصادف تاريخه هذا اليوم، نتذكر من غالب فكرته الجوهرية: الحياة نصّ في حالة تفاعل وجدل بين الناس، وبينهم وبين الطبيعة والعالم من حولهم؛ أي أنها نصّ لم يُكتب بعد، ولن يُكتب. ولا يمكن لأحدٍ الادعاء أنّه حوّل الحياة إلى نصّ مكتوب، وأوقف جدل الإنسان مع ما يحيط به. سيظل كل هذا؛ نحن وما يحيط بنا من وقائع وأوهام وأحداث وصور وذكريات، في حالة يمكن أن نسميها "ما-بعد-النص". نحن وما يمكن أن نكتبه ونعيه أو نفكر فيه، مؤجلون، أي أننا منفتحون على ممكنات شتى، ولسنا سجناء تسلسل خيطي تتعاقب فيه الصور والأحداث والأفكار. لهذا السبب، ومنذ اللحظة الأولى التي رأيت فيها غالب مطلع ثمانينيات القرن الماضي، جذبتني إليه نزعة التفكير بالملموس من الأشياء، والنفور من الأفكار والشخصيات المجردة، تلك التي تفتقر إلى مكان وزمان محددين. ولا أشير هنا إلى كتابه "العالم مادة وحركة" الذي تناول فيه أفكار "النظّام" المعتزلي وغيره، بل أشير إلى منحى تفكيره المتجه دائماً نحو غير المفكر به. 
ونحن نسير ذات أمسية بمحاذاة بيوت ذات طراز عربي تقليدي، قال غالب فجأة، وكأنه يحدث نفسه: "في القَصَص العربي القديم، كان العربي يخرج من بيته باحثاً عن الطعام، ويدور هنا وهناك طيلة نهاره، ثم لا يجد شيئاً، فيعود جائعاً في نهاية المطاف إلى بيته. كان هناك بيتٌ دائماً"! كانت هذه الفكرة كشفاً بالنسبة إلي، إلا أنّ طريقة نطقه بها بتروّ وهدوء، أشعرتني أنه فكر بها طويلاً. ربما لأن هاجس الافتقار إلى بيت، وسنوات التشرد الطويلة التي عاشها بعيداً عن مسقط رأسه في قرية ماعين، ظلا يلازمانه. وسأعرف في ما بعد أن هذه لم تكن طريقة تفكير فقط، بل وطريقة حياة أيضاً. أعني أنك هنا أمام كاتب غير عادي، مأخوذ بكلمات من قبيل "البيت" و"العائلة" و"الأصدقاء" و"القرية"، أي بكل دلالة تنبئ عن مدلول حياتي ملموس وحميم؛ بحياة منسية، مجهولة، مهمشة أو مهملة، بممكنات في طريقها إلى أن تكون، أو أنها كانت ولكن النسيان تغلب عليها، فأصبحت مهمة الكاتب الفنان أن ينقذها من العدم، أن يشكّلها في نص، لكي يمنحها فرصة البقاء والتغلب على الزمن. ها هنا دمج بين ما يحياه الكاتب وما يكتبه، حتى أنه لا يمكن الفصل بين طريقة حياة هلسا وطريقة كتابته، كما أن معرفة الأولى تجعلنا ندرك أدبه بشكل أعمق. ولا يمكن أن يُفهم هذا الموقف إلا في سياق فكرة عن الكاتب والكتابة مغايرة كلياً للفكرة التقليدية الشائعة؛ أي فكرة أن الكتابة مهنة شبيهة بمهنة ممثل يرتدي لها مسوحاً سرعان ما يتخلص منها حين تنتهي المسرحية. كتابة نص أدبي ليست تمثيلاً، ولا يمكن تشبيهها بالتمثيل، بل هي سعي إنسان إلى أن يحيا ويكون ملء الحياة دائماً، سواء كتب أو حاضر أو سار في جوار سور حديقة، أو جلس في مقهى.
إنه يكتب مثل ذلك الياباني الذي يرى الجمال في نزوات الطبيعة وفوضاها وليس في تنظيمنا لها. إن الحديقة اليابانية التي تنتشر في أرجائها أوراق الأشجار المتساقطة والحجارة الخشنة أجمل بما لا يقاس من حديقة ورد إنجليزي مهذبة. لهذا كتبتُ ذات يوم؛ من الصعب أن تتذكر إنساناً مثل غالب من دون أن تشعر أنه لا يصغي إلى رنين الكلمات، صخبها أو صمتها؛ بل تتذكره منجذباً، وهو يتجول أو يكتب أو يفكر أو يلاحظ، إلى ما هو حيّ مع إحساس غامر يحيط بكل تصرفاته بأنّ لا شيء يعادل الحياة. هذه حالة قلت عنها آنفاً إنها "ما-بعد-النص"، وأعني وضعية تتحول فيها الكلمات إلى ذاكرة تنبض وتقول ذاتها بتلقائية من دون مهارات من تقانة أو مفارقات لفظية. نحن جملة احتمالات يمكننا أن نتذكر ما يأتي بالطريقة نفسها التي نتذكر فيها ما مضى وانقضى. أي أننا قادرون على الرحيل في الزمن، متخطين فيه الحدود الفاصلة بين حاضر ومستقبل. بهذه الروحية، بعفويتها وبساطتها، قرأت روايات هلسا. إنها أعمال تجريبية ناطقة، وليست أعمالاً خرساء يتناولها القارئ كما يتناول مصفوفات من أرقام ورموز؛ لا وجود لرموز في عالم هلسا، بل الأشياء التي تحضر بذاتها ولذاتها. لا وجه ينوب عن وجه، ولا حياة تنوب عن حياة؛ لكل كائن في هذه الدنيا خصوصية وملامح، وله نبرة وصوت ولون، ولا فن من دون اكتشاف الخاص، بل والأعمق خصوصية حتى آخر نقطة. وهل يستطيع الفنان التقاط كل هذا إن لم يكن حيّاً ممتلئاً بالحياة؟ 
بقلم : محمد الأسعد .

( الخيام المستطيلة المتجاورة تمتد من الشمال إلى الجنوب بخط شبه مستقيم، خيام سوداء مصنوعة من شعر الماعز يسكنها أفراد القبيلة، وأخرى صغيرة الحجم للزنوج والفلاحين وصنّاع الأدوات المنزلية والأسلحة، وهذه مصنوعة من الخيش أو شعر الجِمال.
أمام خيام رجال القبيلة تقف خيول عربية أصيلة دقيقة الأطراف، ضامرة البطن، متوترة، قلقة.
في الصباح تعلو ضجة المحْرَم وحركة الدخول والخروج تتزايد. تضع النساء ثلاثة أحجار كبيرة وتوقد بينها النار ويعددن عليها الطعام. العيون دامعة من الدخان، والرؤية عسيرة والأصوات النسائية تعلو كأنها تستغيث والأطفال يسرعون بين أقدامهن فتتعثر فيهم النساء ويضربنهم إن كانوا في متناول اليد.
ومع الضحى يقبل الورادون يسوقون حميراً محمّلة بقرب الماء: زنوج وفتيان وصبايا في المؤخرة يستمتعون بآخر لحظة من اللقاء والغزل. ومن رحلة ورود الماء تنشأ الزيجات المقبلة.
وعند وصول الواردين تعلو ضجة أمام الخيام، وتكتسب الوجوه تعبيراً فيه جدية وتعاسة. يسود التوتر وتدع النساء ما كنّ يزاولنه من أعمال. التوتر يسري إلى الشيخ. تزداد عيناه الحمراوان نفاذاً وتبرز عقدة بين حاجبيه. يمسك بخيزرانته ويطرق الأرض برأسها المدور الأسمر طرقات سريعة متتالية.
أمام كل خيمة يقف حمار أو اثنان، وأمام بيت الشيخ وقفت ثمانية حمير وزنجيان وثلاث نساء. كانوا متربين، دامعي الأعين، تفوح منهم روائح العرق. الزنوج يشتمون النساء، والنساء يتوسلن إلى الرب أن يزيل الزنوج والرجال جميعاً والهم الذي يعشن فيه. يحدث هذا وكلهم مستغرقون في عملهم يفكون القرب عن ظهور الحمير، ويتعاونون في نقلها إلى داخل المحرم.
عند باب المحرم تقف وضحا طويلة، مهيبة - خلف انفراجة شفتيها تلمع أسنانها البيضاء - مشيرة إلى المكان المخصّص للماء.
يشرق وجهها، تتكون غمّازتان على جانبي الفم وتقول:
- يعطيهم العافية.
تتناثر الأصوات: يعافيها..
في المحرم زوجات الشيخ الأربع، وبعض الزنجيات والأطفال وبناته وبدويّة متسوّلة. وضحا أطول الجميع، وهي المركز الذي يدورون حوله. كل الحركات تتجه من وضحا وإليها.
توقفت خيزرانة الشيخ عن طرقاتها العصبية. انتصب وسكن في جلوسه. نهض فجأة كأنه انطلق من قذيفة، مسرعاً بخطواته القصيرة، وجسده يعلو ويهبط مع كل خطوة. وظهر كالنذير في وسط المحرم: مستقيماً، قذراً، مشمئزّاً، بالغ الضآلة. قال:
- وش هالحس؟
توقف كل شي لحظة. انفرج فمه وأصبح أنفه أحد تجاعيد وجهه الكثيرة. ثم ارتفعت يده السوداء الصغيرة التي تشبه المخلب بالخيزرانة وأهوى بها على كتف زنجي يحمل قربة ماء. وجه الزنجي العريض يتقلص، وينشج. قال:
- هذي وطفا والله.
ارتفع صوت وطفا: العبد الزفر.
واندفعت خيزرانة الشيخ تهوي في كل الاتجاهات. رأى زنجياً داخلاً يحمل قربة ماء فضربه على عجيزته وساقيه وكتفه والزنجي يدب بحمله بثقة وهدوء كأن لا شيء يحدث. ووضحا تقف منتظرة انتهاء فورة الغضب.
قالت بعد قليل: علامك؟ وشنهو مزعلك؟
نظر إليها، سقطت يده إلى جانبه وقال:
- قللن حس.
استدار بخفة وعاد إلى مجلس الرجال. وارتفع صوت وضحا محايداً، نسائياً جداً وغير موجه إلى أحد بالذات:
- قللن حس يا نسوان. فيه ضيوف.
عينا البدوية المتسوّلة تضطربان بجنون. رأتها وضحا التي لا يفوتها شيء فألقت إليها برغيف خبز ) .

* مقطع من "بدو وزنوج وفلاحون"، 1976



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

«كتاب الفنان»... تجليات بصرية من وحي تراث «عميد الأدب العربي»

  يفتح معرض «كتابُ الفنان» آفاقاً فنية تقتفي تراث ومشروع «عميد الأدب العربي» الراحل طه حسين، وذلك من خلال أعمال تتخذ من «الكتاب» قالباً فنيا...